تشهد الجزائر منذ سنوات موجات متكررة من ارتفاع الأسعار طالت معظم السلع والخدمات الأساسية، من الغذاء إلى النقل، ومن الإيجار إلى المواد المدرسية، وحتى الأدوية. ومع كل موجة غلاء، تتصاعد شكاوى المواطنين الذين باتوا يشعرون بثقل معيشي متزايد، وبتراجع قدرتهم الشرائية بشكل يهدد توازنهم الاجتماعي والاقتصادي. لكن السؤال الجوهري الذي يتكرر دائمًا هو: هل هذا الغلاء ناتج بالأساس عن عوامل اقتصادية عالمية، أم عن سوء تسيير محلي؟ أم عن مزيج من الاثنين؟
خلفية اقتصادية معقدة
من الضروري أن نفهم السياق الاقتصادي الذي تعيشه الجزائر. فهي دولة تعتمد بدرجة كبيرة على صادرات المحروقات، وتشكل العائدات النفطية أكثر من 90% من مداخيل العملة الصعبة. لذلك، فإن أي انخفاض في أسعار النفط أو الغاز عالميًا ينعكس مباشرة على قدرة الدولة على الاستيراد، وعلى تمويل الدعم والخدمات العمومية، ما يؤدي في النهاية إلى التضخم.
إضافة إلى ذلك، فإن الجزائر ليست بمعزل عن التقلبات الاقتصادية الدولية، مثل ارتفاع أسعار الشحن، أو نقص بعض المواد عالميًا مثل الحبوب والزيوت نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية. هذه العوامل مجتمعة تؤثر على السوق المحلية وتدفع الأسعار نحو الأعلى.
اختلالات هيكلية في الإنتاج الوطني
رغم امتلاك الجزائر لإمكانات فلاحية وصناعية معتبرة، فإن الإنتاج المحلي لا يغطي حاجات السوق، بل تبقى البلاد تعتمد بدرجة كبيرة على الاستيراد، خصوصًا في ما يخص المواد الغذائية الأساسية. ضعف الإنتاج الوطني يعني أن الطلب دائمًا يفوق العرض، ما يجعل الأسعار مرتفعة بطبيعتها، ويزيد من هشاشة السوق أمام أي اضطراب خارجي.
كما أن غياب استراتيجية واضحة لإحلال الواردات بالإنتاج المحلي، ووجود عقبات بيروقراطية أمام المستثمرين، أدى إلى تباطؤ خلق القيمة المضافة داخليًا، ما ساهم في تعميق الفجوة بين حاجيات المواطن وقدرات السوق المحلية.
دور المضاربة والاحتكار
لا يمكن الحديث عن غلاء الأسعار في الجزائر دون التطرق إلى مسألة المضاربة والاحتكار، وهي من أبرز مسببات الغلاء، خصوصًا في المواد الغذائية. في غياب رقابة فعالة ومستمرة، تستغل بعض الشبكات الفوضى التنظيمية، وتقوم بتخزين المواد الأساسية لخلق ندرة مصطنعة، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل غير مبرر.
هذه الظاهرة تتكرر في كل موسم، خصوصًا خلال رمضان والمناسبات، ما يُظهر ضعف آليات الرقابة، وغياب أدوات قانونية رادعة. كما أن البنية التجارية المعتمدة على الوساطة والتوزيع العشوائي بدل سلاسل التوزيع المنظمة، تجعل من السوق عرضة لتقلبات غير منطقية.
ضعف السياسات الحكومية في ضبط السوق
من أبرز العوامل المؤدية إلى استمرار الغلاء هو ضعف فعالية السياسات الاقتصادية في التعامل مع الوضع. رغم إقرار السلطات بوجود مشكلة، إلا أن الإجراءات غالبًا ما تكون متأخرة، ظرفية، أو غير كافية.
فمثلًا، تعاني الجزائر من غياب نظام دعم موجه بدقة للفئات الضعيفة، ما يجعل الدعم العام غير فعال، ويخلق تفاوتًا في الاستفادة منه. كما أن برامج مراقبة الأسواق غالبًا ما تكون موسمية، ولا تبنى على مؤسسات دائمة لضبط الأسعار بشكل مستدام.
إضافة إلى ذلك، فإن الفوضى في نظام الاستيراد، وكثرة التغيرات في القوانين الجمركية، يخلقان مناخًا من التردد لدى المستوردين والتجار، ما ينعكس على استقرار الأسعار.
ضعف الشفافية والتواصل مع المواطن
جانب آخر مهم يتعلق بكيفية تواصل الحكومة مع المواطنين حول أسباب الغلاء. في كثير من الأحيان، يجد المواطن نفسه في مواجهة ارتفاع أسعار دون أي تفسير رسمي مقنع أو واضح. غياب الشفافية في تقديم المعطيات الاقتصادية يعزز الشعور بانعدام الثقة، ويُغذي الإشاعات والتأويلات.
الناس يريدون أن يعرفوا: هل هناك فعلاً أزمة في الاستيراد؟ هل الدولة ما تزال قادرة على دعم الأسعار؟ هل هناك خطة واضحة؟ غياب هذه المعلومات يفتح الباب لتأويلات تربط كل غلاء بسوء التسيير أو الفساد، حتى لو كانت بعض أسبابه خارجة عن السيطرة.
القدرة الشرائية في تراجع مستمر
الواقع يؤكد أن القدرة الشرائية للجزائريين في تدهور. الأجور ظلت شبه مجمدة لسنوات، بينما الأسعار في تصاعد دائم. والنتيجة أن شريحة واسعة من الطبقة المتوسطة باتت اليوم تعاني لتوفير أساسيات الحياة، ناهيك عن الطبقات الهشة.
هذا التآكل في القدرة الشرائية لا يُقاس فقط بمؤشرات رسمية، بل يظهر يوميًا في الأسواق، في استهلاك الأسر، وفي لجوء كثير من العائلات إلى الاستدانة أو الاقتصاد المفرط أو حتى الإعانات.
هل من حلول واقعية؟
لتجاوز هذا الوضع، لا يكفي فقط إلقاء اللوم على العوامل الخارجية أو على “اللوبيات”، بل يجب التفكير في حلول جذرية:
- إصلاح المنظومة الإنتاجية
دعم الإنتاج الوطني، خصوصًا في الزراعة والصناعات الغذائية، من خلال تشجيع الاستثمار، ورفع العراقيل الإدارية. - رقمنة التوزيع والرقابة
بناء نظام رقابي رقمي يتابع حركة السلع من المنتج إلى المستهلك، مع تفعيل قوانين صارمة ضد المضاربين. - تحسين الشفافية في السياسة الاقتصادية
تقديم تقارير دورية تشرح تطورات الأسعار، والأسباب، والحلول المقترحة، لكسب ثقة المواطن. - رفع الأجور أو دعم موجه للفئات المتضررة
يجب إعادة النظر في سياسة الأجور بما يتناسب مع الواقع المعيشي، أو تطوير دعم ذكي للفئات المتوسطة والهشة. - استقرار في التشريعات الاقتصادية
تجنب تغيير القوانين الاقتصادية بشكل مفاجئ، مما يعمق الفوضى في السوق.
الغلاء في الجزائر نتيجة مركبة تجمع بين أسباب اقتصادية عالمية، وأخطاء في التسيير المحلي، ونقص في التخطيط الاستراتيجي. وإذا كانت الدولة تتحمل جزءًا من المسؤولية في وضع آليات فعالة لضبط السوق وتحقيق العدالة الاجتماعية، فإن الوقت قد حان لرؤية إصلاحية شاملة تعالج جذور الأزمة لا مظاهرها فقط.