التعليم في الجزائر: إصلاح مستمر أم ارتجال دائم؟

منذ الاستقلال، ظلّ قطاع التعليم في الجزائر من أهم القطاعات التي استثمرت فيها الدولة، باعتباره حجر الأساس لأي نهضة وطنية. ورغم تعدد الإصلاحات والتعديلات، إلا أن الشكوى من تدهور جودة التعليم وغياب المردودية ما تزال قائمة. وبينما تتحدث الجهات الرسمية عن “إصلاح متواصل”، يتهم الكثير من المراقبين السياسات التعليمية بالارتجال، وغياب الرؤية الاستراتيجية الشاملة.

فهل نعيش فعلًا مسار إصلاح ممنهج للتعليم؟ أم أننا ندور في دوّامة من التجريب العشوائي الذي لا يراعي خصوصيات المجتمع ولا تطلعاته؟

الإرث الاستعماري وتحديات بناء مدرسة وطنية

عند استقلال الجزائر عام 1962، ورثت البلاد نظامًا تعليميًا فرنسيًا موجهًا لأقلية من السكان، كان محوره خدمة المصالح الاستعمارية. لم تتعدَّ نسبة المتمدرسين 15%، وكانت الأمية تفوق 80%. ومنذ ذلك الحين، انطلقت محاولات جزأرة التعليم، وتعريبه، وتوسيعه ليشمل كل فئات الشعب، وهو أمر استوجب موارد هائلة وجهودًا جبارة.

لكن في ظل ضعف الكوادر المحلية، وقلة المناهج الوطنية المتكاملة، أُجبر النظام التعليمي على الاستمرار في الاعتماد على النماذج الأجنبية، ما أفرز خللًا بنيويًا لا يزال مستمرًا إلى اليوم. فالتعليم في الجزائر لم يُبنَ من البداية على مشروع مجتمعي متكامل، بل جاء كردود فعل على أزمات أو ضغوط اجتماعية، وهو ما يفسر تذبذبه المستمر.

إصلاحات بالجملة… دون تقييم حقيقي

مرت المدرسة الجزائرية بعدة “إصلاحات كبرى” نذكر منها:

  • إصلاح 1976 الذي رسخ المجانية والإلزامية، وربط التعليم بخيارات الاشتراكية.
  • إصلاحات التسعينيات في ظل الانفتاح الاقتصادي وتوسع التعليم الخاص.
  • إصلاح 2003 بعد تقرير لجنة بن زاغو، والذي اعتُبر الأوسع من حيث التغيير في البرامج، وطريقة التقييم.
  • إصلاحات مستمرة لاحقًا شملت البكالوريا، الطور الابتدائي، التعليم المهني…

ورغم كثرة هذه الخطط، فإنها غالبًا ما كانت تفتقر للتقييم الجاد لنتائجها، ولا تُبنى على دراسات علمية طويلة المدى. بدلًا من التدرج في الإصلاح، كثيرًا ما يتم هدم القديم واستبداله بالجديد فجأة، ما يُربك التلاميذ، والأساتذة، والأولياء.

المحتوى البيداغوجي… ما بين الكمّ والكيف

من أبرز مظاهر الأزمة التعليمية في الجزائر، المحتوى البيداغوجي:

  • مناهج ثقيلة وذات محتوى معرفي مفرط في الحشو.
  • اعتماد مفرط على التلقين بدل التفكير والتحليل.
  • مواد غير مترابطة، وضعف في الدمج بين التخصصات.
  • تركيز على الجانب النظري دون تدريب على المهارات الحياتية.

ورغم محاولات إصلاحية مثل اعتماد المقاربة بالكفاءات، إلا أن التطبيق غالبًا ما كان صوريًا بسبب غياب التأهيل الجيد للمعلمين، وضعف الوسائل البيداغوجية، والتباين بين البيئة التعليمية والمجتمع الخارجي.

البنية التحتية والوسائل… بين الضغط والتقادم

عدد المؤسسات التربوية في الجزائر في تزايد، لكن الطلب عليها أسرع من القدرة على الاستيعاب. فمع ارتفاع عدد السكان، وتوسع التمدرس، نشهد:

  • أقسام مكتظة (أحيانًا تفوق 45 تلميذًا).
  • مدارس تفتقر للتدفئة، والتهوية، والمرافق الصحية.
  • نقص كبير في الوسائل التعليمية العصرية.
  • تباين واضح بين مدارس الحضر والريف، وبين ولايات الشمال والجنوب.

هذا الخلل يجعل من تنفيذ أي إصلاح بيداغوجي مهمة صعبة في ظل بيئة غير مؤهلة.

المعلم الحلقة الأضعف… رغم مركزيته

في كل منظومة تعليمية ناجحة، يُنظر إلى المعلم كمحور أساسي للإصلاح. لكن في الجزائر، يعاني المعلمون من:

  • ضعف التكوين الأكاديمي والتربوي في كثير من الحالات.
  • تهميش في اتخاذ القرار، وغياب التحفيز.
  • ظروف عمل صعبة، وأجور لا تواكب التضخم.
  • احتجاجات متكررة تؤثر على استقرار السنة الدراسية.

كما أن السياسة المتبعة في التوظيف، القائمة أحيانًا على عقود مؤقتة أو مسابقات دون معايير بيداغوجية صارمة، تُضعف من نوعية الكادر التربوي.

التلاميذ في قلب الأزمة

ضغوط البرنامج، وطول اليوم الدراسي، وغياب الأنشطة الترفيهية والثقافية، كلها عوامل تخلق جيلًا من التلاميذ المحبطين أو غير المتحمسين للتعلم. وتزداد المشكلة مع:

  • توسع ظاهرة الدروس الخصوصية، التي تكشف فشل النظام الرسمي.
  • ضعف التوجيه المدرسي والمهني.
  • غياب ثقافة التميز والابتكار داخل المؤسسات.

النتيجة: نسب رسوب مرتفعة، تسرب مدرسي، وتمركز الاهتمام على الشهادات فقط، لا على اكتساب الكفاءات.

الجامعة في مواجهة سوق العمل

رغم تزايد عدد خريجي الجامعات، فإن العلاقة بين التكوين الأكاديمي وسوق العمل ما تزال ضعيفة. الجامعات تُخرج آلاف الطلبة سنويًا في تخصصات لا يحتاجها الاقتصاد، ما يخلق بطالة مقنعة ويغذي الهجرة.

من جانب آخر، تبقى الجامعات الجزائرية متأخرة في التصنيفات الدولية، وتواجه تحديات في البحث العلمي، والتمويل، والانفتاح على القطاع الخاص.

التعليم الخاص… واقع غير مُنظم

شهدت الجزائر في السنوات الأخيرة توسعًا كبيرًا للتعليم الخاص، خصوصًا في المدن الكبرى. ورغم أنه يوفر بديلًا للكثير من الأولياء، إلا أن:

  • هناك غياب لضوابط صارمة لجودة التعليم.
  • تباين كبير في الأسعار والمستوى.
  • تسليع التعليم بدل جعله مشروعًا تنمويًا.

ورغم وعود تنظيم القطاع، إلا أن الإطار القانوني ما يزال هشًا، ما يجعله مجالًا للاستثمار غير المدروس أحيانًا.

أي رؤية للمستقبل؟

لإخراج التعليم من أزمته البنيوية، لا بد من التحول من “إصلاح رد الفعل” إلى “إصلاح استراتيجي”. وذلك يتطلب:

  1. تحديد رؤية واضحة لدور المدرسة في المجتمع، وهل الهدف هو خلق مواطن متعلم أم كفاءة اقتصادية؟
  2. إشراك جميع الفاعلين: المعلمين، النقابات، الأولياء، والخبراء، في بناء المشروع التربوي.
  3. ربط المناهج بسياق المجتمع ومهارات القرن 21.
  4. تحسين التكوين الأولي والمستمر للمعلمين.
  5. تحديث البنية التحتية وتعميم الوسائل الرقمية.
  6. تثمين المهن التربوية والبحث العلمي.

خاتمة: بين الأمل والتخبط

رغم كل العثرات، فإن الجزائريين لا يزالون يرون في التعليم السبيل الأساسي للارتقاء الاجتماعي. لكن دون إرادة سياسية واضحة، وتخطيط عقلاني طويل المدى، وجرأة في الاعتراف بالأخطاء، سيبقى التعليم يدور في دوّامة من الإصلاحات الشكلية، بينما الواقع يتدهور. لقد حان الوقت لتغليب المنطق التربوي على الحسابات السياسية، وبناء مدرسة جزائرية رائدة فعلاً لا قولاً.

إصلاح التعليمالتعليم الجامعيالتعليم الخاصالتعليم في الجزائرالدروس الخصوصيةالمدرسة الجزائريةالمعلم في الجزائرالمنظومة التربويةمستقبل التعليممشاكل التعليم