هل تمتلك الأحزاب السياسية رؤى حقيقية للتغيير في الجزائر؟

تُطرح في الجزائر منذ عقود تساؤلات حادة حول دور الأحزاب السياسية صناعة حياة سياسية والسعي نحو تبوؤ مراكز القيادة والتغيير، أو حتى المشاركة الفعلية فيه. وبينما تتكاثر هذه الكيانات على الورق، يزداد ضعف تأثيرها في الحياة العامة، ويتراجع حضورها في المشهد السياسي والاجتماعي. فهل يعكس هذا الضعف غيابًا فعليًا للرؤى والمشاريع؟ أم أنه نتيجة معوّقات تحول دون تنفيذ تلك الرؤى إن وُجدت؟ الإجابة تقتضي الغوص في أعماق التجربة الحزبية الجزائرية.

الكم دون النوع.. أكثر من 70 حزبًا ولكن!

منذ الانفتاح الديمقراطي في نهاية الثمانينيات، شهدت الجزائر ولادة عشرات الأحزاب، منها الوطني ومنها المحلي، منها ما تأسس بدوافع أيديولوجية ومنها ما جاء كرد فعل. لكن هذا التنوع الكمّي لم يفرز ديناميكية سياسية صحية. بل على العكس، ساهم في تشتيت الوعي السياسي، وانعدام المرجعيات الفكرية الواضحة.

الأحزاب في الغالب إما موسمية تُفعّل في الانتخابات، أو أحزاب مقربة من السلطة تتماهى معها، أو تشكيلات صغيرة غير قادرة على توسيع قاعدتها.  حتى صار المواطن يرى في العمل الحزبي صورة نمطية للمحاباة والانتهازية لا علاقة له بالنضال ولا للرؤية المستقبلية.

غياب البرامج الواقعية والعمق الفكري

واحدة من أبرز مظاهر أزمة الرؤية لدى الأحزاب هي السطحية في الطرح. فمعظم التشكيلات السياسية لا تمتلك برامج متكاملة ومُحكمة، بل تكتفي بجمل عامة مثل “تشجيع الاستثمار”، “محاربة الفساد”، “دعم الشباب”، دون تحديد آليات ذلك؟ وبأي وسائل؟ وما هي الأولويات؟

تلك الشعارات تكررت في كل الانتخابات دون أن يتحقق منها شيء. ونتيجة لذلك، لم يعد المواطن يثق في قدرة الأحزاب على إحداث فرق، بل بات يرى فيها مجرد واجهات للتزيين السياسي دون مضمون فعلي.

الأحزاب كأدوات للتموقع لا للتغيير

الكثير من الأحزاب في الجزائر تأسست في الأصل لغرض التموقع السياسي أو التفاوض مع السلطة، وليس لبناء مشروع مجتمعي. وهذا ما يفسر كثرة الانشقاقات والصراعات الداخلية، التي غالبًا ما تكون مرتبطة بالمصالح وليس بالاختلاف الفكري أو البرامجي.

كما أن بعض الأحزاب تلجأ إلى تغييرات خطابية ظرفية، بحسب اتجاه الريح، دون أن تستند إلى قاعدة فكرية ثابتة. وهذا ما يفرغها من أي مصداقية، ويجعلها غير قادرة على بناء الثقة مع الشارع، أو تقديم نفسها كقوة إصلاح حقيقية.

الحراك الشعبي كمؤشر حاسم

عندما خرج الجزائريون في 2019 في مسيرات شعبية واسعة، كانت الصدمة الكبرى غياب شبه تام للأحزاب، لا في التنظيم، ولا في التأطير، ولا في تمثيل مطالب الشارع. بل إن كثيرًا من المواطنين هتفوا ضد الطبقة السياسية، مطالبين برحيل الجميع، بما فيهم ممثلو المعارضة.

هذا الغياب لم يكن مجرد صدفة، بل نتيجة تراكم طويل من الانفصال بين المواطن والحزب، وبين الواقع والشعارات. وقد كشف الحراك عن مدى فقدان الأحزاب للبوصلة، وعن الحاجة إلى إعادة بناء الفعل السياسي من جذوره.

ضعف التجديد الداخلي وغياب الكفاءات

الكثير من الأحزاب الجزائرية تعاني من شيخوخة تنظيمية وفكرية. فزعيم الحزب يبقى في منصبه لعقود، دون تداول حقيقي للقيادة. وغالبًا ما يُهمّش الشباب والكفاءات لصالح دوائر الولاء.

كما أن الهيكل التنظيمي للحزب لا يتطور، ولا يعتمد آليات التقييم والمتابعة والتخطيط، مما يضعف قدرته على قراءة الواقع المتغير، أو التفاعل مع تطلعات الجيل الجديد، أو حتى تطوير أدواته الرقمية والإعلامية.

ما الذي يجب تغييره داخل الأحزاب؟

إذا أرادت الأحزاب أن تلعب دورًا فاعلًا في التحول الديمقراطي والتنموي، فيجب أن تبدأ أولًا بإصلاح بيتها الداخلي:

  1. هيكلة البرامج:
    صياغة برامج حقيقية مستندة إلى بيانات ميدانية ودراسات واقعية، مع تحديد أولويات حسب كل منطقة وفئة عمرية.
  2. فتح النقاش الداخلي:
    بناء ثقافة حزبية تقوم على الحوار والتقييم الذاتي، وتشجيع النقد الداخلي من أجل التطوير لا الإقصاء.
  3. دمج الشباب والكفاءات:
    تطوير آليات لاستقطاب الجامعيين وأصحاب الخبرات، وإعطائهم مساحة حقيقية للمساهمة، لا أن يُستعملوا فقط في الحملات الانتخابية.
  4. تطوير أدوات التواصل:
    اعتماد الإعلام الرقمي بذكاء، وإنشاء منصات للحوار المستمر مع المواطن، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتقريب الحزب من الشارع.

هل هناك استثناءات؟

رغم كل هذا المشهد الرمادي، توجد بعض النماذج الحزبية أو الشخصيات السياسية التي حاولت تقديم طرح مختلف. لكن إما لم يُمنح لها الحضور الإعلامي، أو واجهت صعوبات داخلية، أو لم تجد دعمًا جماهيريًا كافيًا.

وهذا ما يفرض على أي تجربة جديدة أن تُبنى على أساس الوعي الشعبي، والعمل الميداني، والالتصاق بالقضايا اليومية، لا الاكتفاء بمكاتب مكيفة ونقاشات نُخبوية بعيدة عن الناس.

هل المستقبل يحمل أملًا؟

المجتمع الجزائري اليوم أكثر وعيًا، وأكثر تطلعًا للتغيير، لكنه أيضًا أكثر حذرًا. وبالتالي، فإن أي حزب يريد استعادة ثقة الشارع، عليه أن يشتغل بتواضع، وباستمرارية، وبصدق، لا أن ينتظر المواعيد الانتخابية فقط.

المطلوب هو حركة سياسية مجتمعية، تنمو من القاعدة، وتعمل في الأحياء والجامعات والنقابات، وتراكم التأثير، حتى تُحدث الفارق في لحظة التغيير.

إن غياب الرؤية لدى الأحزاب السياسية في الجزائر ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة لمسار طويل من الاختلالات البنيوية والفكرية والتنظيمية. ويمكن الخروج من هذا النفق إذا ما وُجدت إرادة حقيقية لدى بعض الفاعلين لإعادة الاعتبار للفعل الحزبي، ليس كأداة سلطة، بل كوسيلة بناء وتغيير.

أزمة الثقة السياسيةالأحزاب السياسية الجزائريةالإصلاح السياسيالانتخابات الجزائريةالتعددية الحزبيةالتغيير السياسيالحراك الشعبيالشباب والعمل السياسيبرامج الأحزابدور الأحزاب في الجزائر